فضل العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة، ونماذج من العمل
الخطبة الاولى
[size=21]الحمد لله الذي خلق الزمان وفضّل بعضه على بعض فخصّ بعض الشّهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يُعظَّمُ فيها الأجر ، ويَكثرُ الفضلُ رحمةً منه بالعباد ليكون ذلك عْوناً لهم على الزيادة في العمل الصالح والرغبة في الطاعة ، وتجديد النشاط ليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب ، فيتأهب للموت قبل قدومه ويتزود ليوم المعاد .
وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
أخي المسلم، إن من فوائد مواسم الطاعة سدَّ الخلل واستدراكَ النقص وتعويضَ ما فات ، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه عملٌ صالحٌ يتقرب به العباد إليه ، ولله تعالى فيه نفحةٌ من نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات؛ فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات ، فيسعد بها سعادةً يأمنُ بعدها من النار وما فيها من اللفحات . ابن رجب في اللطائف ص40 .
أيها المسلم، أعرفتَ قدر عمرك وقيمة حياتك، أما آن لك أن تتفطن لمصلحتك فتُكثرَ من عبادة ربك ، وتُواظبَ على فعل الخيرات إلى الممات .
قال الله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) الحجر/99
قال المفسرون اليقين : الموت.
أيها الناس، وإن من مواسم الطّاعة العظيمة العشرَ الأُوَلَ من ذي الحجة التي فضّلها الله تعالى على سائر أيام العام فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر . قالوا ولا الجهاد في سبيل الله !! قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء " أخرجه البخاري.
وعنه أيضاً رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظم أجراً من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى " قيل : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " رواه الدارمي وإسناده حسن.
فهذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها ، حتى العشر الأواخر من رمضان . ولكنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، وبهذا يجتمع شمل الأدلة، كما نبَّه عليه غيرُ واحدٍ من أهل العلم.
واعلم - يا أخي المسلم - أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
1- أن الله تعالى أقسم بها : والإقسام بالشيء دليلٌ على أهميته وعظم نفعه ، قال تعالى : ( والفجر وليال عشر ) قال ابن عباس وابن الز**ر ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف : إنها عشر ذي الحجة . قال ابن كثير : " وهو الصحيح "
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدّم في الحديث الصحيح .
3- أنه حث فيها على العمل الصالح : لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار ، وشرف المكان - أيضاً – بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام، وحاضري المسجد الحرام.
4- أنه أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". أخرجه احمد.
5- أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام سنتين ، وفيها أيضا يومُ النحر الذي هو أعظمُ أيام السنّة على الإطلاق وهو يومُ الحجّ الأكبر الذي يجتمعُ فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره .
6- أن فيها الأضحية والحج . والله تعالى يحب قصد بيته من الآفاق، ويحب إراقة الدم تعظيما لحرمته، وإقامةً لشعائره، فانظر كيف تجتمع في هذه الأيام أبوابٌ من الفضائل لا تجتمع في غيرها من الأيام.
ثم إن من استغلال الزمان في هذه العشر استغلال نهارها، بل وحتى ليلها بأنواعٍ من الأعمال الصالحة ورد الحث عليها بخصوصها، أو بعمومات الأدلة إذ إن إدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد ، إنما يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون . وواجب المسلم استشعار هذه النعمة ، واغتنام هذه الفرصة ، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية ، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات ، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه.
فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة :
1- الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر ، والصيام من أفضل الأعمال . وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي : " قال الله : كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " أخرجه البخاري
وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعَ ذي الحجة . فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر . أول اثنين من الشهر وخميسين " أخرجه النسائي وأبو داود وصححه الألباني.
2- التكبير : فيسن التكبيرُ والتحميدُ والتهليلُ والتسبيحُ أيام العشر . والجهرُ بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة ، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى. يجهر به الرجال وتخفيه المرأة، قال الله تعالى : ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) الحج : 28 والجمهور على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( الأيام المعلومات : أيام العشر ) ، وصفة التكبير : الله أكبر، الله أكبر -لا إله إلا الله ، والله أكبر، الله أكبر- ولله الحمد ، وله صفات أخرى .
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل ، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين ، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد فإن هذا غير مشروع.
أيها المسلمون، إن إحياء ما اندثر من السنن أو كاد يندثر، إن إحياء ذلك بتطبيقه، وإشاعته بين الناس- فيه ثواب عظيم دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ) أخرجه الترمذي وهو حديث حسن لشواهده .
3- أداء الحج والعمرة : إن من أفضل ما يُعمل في هذه العشر بل إنه أفضلُها حج بيت الله الحرم، خصوصا لمن لم يسبق له الحج فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب - إن شاء الله - من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
4- الإكثار من الأعمال الصالحة عموما : لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى . فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
5- ومن الأعمال الصالحة في هذا العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي واستسمانها واستحسانها وبذل المال في سبيل الله تعالى .
6- ومما يتأكد في هذا العشر التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب . والتوبةُ هي الرجوع إلى الله تعالى وترك ما يكرهه الله ظاهراً وباطناً ندماً على ما مضى ، وتركا في الحال ، وعزماً على ألا يعود والاستقامة على الحقّ بفعل ما يحبّه الله تعالى .
والواجب على المسلم إذا تلبس بمعصية أن يبادر إلى التوبة حالاً بدون تمهل لأنه : أولاً : لا يدري في أي لحظة يموت .
ثانياً : لأنّ السيئات تجر أخواتها .
وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم لأن الغالبَ إقبالُ النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير فيحصل الاعترافُ بالذنب والندمُ على ما مضى . وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان ، فإذا اجتمع للمسلم توبةٌ نصوح مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح إن شاء الله . قال تعالى : ( فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ) القصص : 67 .
فليحرص المسلم على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء ، وليقدم لنفسه عملا صالحاً يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه : إن الثواب قليل ، والرحيل قريب ، والطريق مُخْوِف ، والاغترار غالب ، والخطر عظيم ، والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمآب ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ).
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة ، فما منها عِوَضٌ ولا تُقدَّر بقيمة ، المبادرةَ المبادرةَ بالعمل ، والعجل العجل قبل هجوم الأجل ، وقبل أن يندم المفرّط على ما فعل ، وقبل أن يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل ، قبل أن يحول الموت بين المؤمِّل وبلوغ الأمل ، قبل أن يصير المرء محبوسا في حفرته بما قدَّم من عمل[1] . يا بارد القلب، منشغلا بدنياه أما تُبصر مصارع القوم، أما تدري أن لعباد الله أجلاً هم بالغوه، وأنت منهم، يا ليت شعري، كم من مغترٍّ قبلك داهمه الموتُ والمنون، وقد كان يؤمِّل التأخير واستدراك العمل الصالح فيما تبقى من السنون، فجاءه من الله ما لا مدفع له، وندم على كثير مما فرط منه ولم يكن يأبه له.
يا أخي يا حبيبي، ها قد جاءك الموسم، فكن على حذر من التفريط، جاءك الموسم فكن فيه من أهل السبق لا من أهل الغطيط. فلعل الله أن ينظر لك نظرة رحمة، فيصلِحَ ابنك وزوجَك، ولعل الله أن ينظر لك نظرة رحمة فيفتحَ لك بعملٍ صالحٍ واحد أبوابَ أعمال صالحة لم تكن تطيقها، ولعل الله أن ينظر لك نظرة رحمة فيتقبلَ دعاءَك، ويرفع عن أمتك، ويصلح دينك ودنياك وآخرتك.
[size=25]الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمته، ونسأله المزيد من فضله وعافيته، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله:
إن مما يجدر الوقوف عنده في خطبتنا هذه، ما وصل إليه حال إخواننا في غزة من التضييق، ونقص المُؤن، وقلة ذات اليد، ومن اضطهاد العدو، وتجاهل الغريب، وصدود القريب، فوالله لو أنهم كانوا مليونا من القطط أو الغزلان أو الأسماك في مثل هذه الظروف لتداعت أمم الشرق والغرب على نجدتهم ، ونصرتهم. ولا أدري كيف يمكن لإنسان فضلا عن أن يكون مسلماً، فضلا عن أن يكون ممن آتاه الله من المُلك والجاه والقُدرة على التأثير الشيء الكثير ثم لا يفعلُ شيئاً. أفي الآذان صمم، فليتها صُمَّت حتى لا تدري بما يجري، أفي العيون عمى، فيا ليتها عميت حتى لا يشهد علينا التاريخ بأنا فُقنا الألف مليون، ومع ذلك يستذلنا الأراذل، وتنتهك حرماتنا اليهود ، ونسلِّمُ أمورنا للنصارى، فاللهم عجل لنا بنصرك، وأصلح شأننا كله.
وإن من واجب المسلم العادي قليل الحيلة أن يفعل الأمر العظيم الذي يمكن أن يؤثِّر أعظم أثر- أعني بذلك الدعاء، فلندعُ أخواني، ولنحمل أئمتنا في المساجد على القنوت لتفريج الكرب، وإصلاح الحال، وكبت العدو. فلا يرانا الله وحُرُماتنا تُنتهك ونحن ساهون غافلون مفرِّطون، أو فرحون محتفلون وقد أقيمت في الأسبوعين الماضيين في حال اشتداد الأزمة حفلاتٌ في غير ما بلد مجاور بمئات الملايين من الدولارات في تفاهات وتبذير قد يعاقب الله عليه، بل لن يتركه اللهُ تعالى دون أن يُعاقب عليه. فلو أنه أُنفق رُبعها لأهل غزة، ورُبعُها الآخر لإيصاله إليهم لكفتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثانياً: إن بي وبكم وبالناس حاجةٌ إلى رحمة الله بإنزال المطر، ولعل يومنا هذا أن يكون مفتتح الخير، وقد مُطر الناس من حولنا شمالا وجنوبا، وأُغدقت النعم على كثيرين، ونحن محرومون، أفلا يستحق ذلك منا التأمُّل والمراجعة، شركاتنا الكُبرى لا تكوني سببا لمنع القطر عن الناس، منشآتنا وبنوكنا وتُجارنا اتقوا الله فينا، أخي الشاب قد يحرم الله الناس من القطر بمعصيتك، فالله الله، الله الله بتقوى الله، والله الله بتجنب أسباب عقابه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.