قال العلامة محمد بن أحمد السَّفَاريني في نفَثاتُ صَدْر المُكْمَد و قرّة عَيْن الأرمَد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد ، تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : { إنَّ الله تبارك و تعالى قال لي : إنَّ أمتك لا يزالون يتساءلون فيما بينهم حتى يقولوا هذا الله خلق الناس فمن خلق الله ؟ } في صفحة 412 من المجلد الأول :
" فإن القلوب ثلاثة : صحيح سليم ، و مريض سقيم ، وميت رميم .
فالسليم : هو الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به ، كما قال جل شأنه : { يَوْم لَا يَنْفَع مَال وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَلِيم (89) } [ الشعراء ] وهو الذي سلم من الشهوات و الشبهات ، فليس لله فيه شريك بوجهٍ ما ، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادةً ومحبةً و توكلاً و إنابة و إخباتاً و خشية و تفويضاً و رجاءً ، وقد أخلص عمله لله ، فإن أحب فلله ، و إن أبغض ففي الله ، و إن أعطى فلله ، و إن منع فلله ، ولا يسلم السلامة الأبدية ، ويحيا الحياة السرمدية ، حتى يسلم من الانقياد و الانفعال لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الاقتداء به وحده دون غيره في الأقوال و الأفعال و العقائد ، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دِقِّه و جِلِّه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل ، كما قال تعالى { لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله } [ الحجرات:1] أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تفعلوا حتى يأمر ، ولهذا قال بعض السلف : ما من فعلة و إن صغرت إلا يُنشر لها ديوانان : لمَ ؟ و كيف ؟ ، أي لم فعلت ؟ و كيف فعلت ؟
فالأول : سؤال عن علة الشيء و باعثه و داعيه من دفع مكروه ، أو جلب محبوب ، أم الباعث على ذلك القيام بحق العبودية وطلب التقرب إلى الرب سبحانه ، و ابتغاء الوسيلة إليه ؟ وحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك ، أم فعلته لحظك وهواك ؟
و الثاني : سؤال عن متابعة الرسول في ذلك التعبُّد ، أي هل كان ذلك العمل مما شرعتُه على لسان رسولي ؟ أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه ؟
فالأول سؤال عن الإخلاص ، و الثاني عن المتابعة ، فلا يقبل الله عملاً إلا بهما ، فمتى أخلص العمل وحقق المتابعة ، كان قلبه سليماً ، وسيره قويماً .
وضد هذا : القلب الميت الذي لا حياة به ، فهو لا يعرف ربه ، ولا يعبده بأمره ؛ و بما يحبه ويرضاه ، بل هو واقف مع شهواته و إراداته ، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه ، لعدم مبالاته إذا فاز بشهواته وحظوظه كيفما اتفق ؛ رضي ربه أم سخط ، فهو متعبِّد لغير الله ؛ حباُ وخوفاً ، ورضاً و سخطاً وتعظيماً وذلّاً ، فهو إن أحب أحب لهواه ، و إن أبغض أبغض لهواه وكذلك منعه و إعطائه ، وقريبه و إقصاؤه ، فهواه أثر عنده من رضا مولاه ، فهو إنما يفكر في تحصيل أغراضه ، ولو كان فيها هلاكه مع أمراضه ، لأن قلبه بحب الدنيا و الأمور الدنيوية مخمور ، ولبُّه باقتناص العاجل دون الآجل مغمور ، فلسان حاله يقول : برَّة منقودة ، ولا درَّة مفقودة ، فإذا نادى بع داعي الله ورسوله والدار الآخرة ؛ فمن مكان بعيد ، فلا يستمع للناصح ، ويتبع كل شيطان مريد ، فالدنيا تسخطه و ترضيه ، و الهوى يقرِّبه و يقصيه ، فهو مع الدنيا كما قيل :
عدو لمن عادت وسِلم لأهلها ومن قرَّبت ليلى أحب و قرَّبا
فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ، ومعاشرته سم . و بالله التوفيق .