أيُّها الإخوة ُالأكارم : لقد ابتدأ اللهُ الآية َبالتأكيدِ على نبوةِ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ورسالتِهِ، ثمَّ عقـَّبَ على هذا التأكيدِ بوصفٍ يُبيِّنُ فيهِ حقيقة َما كانَ عليهِ صحابتهُ الكرامُ رِضوانُ اللهِ تعالى عنهم أجمعين من صفاتٍ قرآنيةٍ, تمكنتْ من نفسياتِهم, فقد صَقلَ القرآنُ شخصياتِهم أروع َ ما يكونُ الصَّقل، وبناها أعظمَ ما يكونُ البناء، فكانوا كما أريدَ لهُم أن يكونوا من غيرِ تكلفٍ ولا تفلتٍ ، بل عِلمٌ وفهم ، عملٌ وإخلاص . فهُمْ أشداءُ على الكفار.
وتلكَ هيَ المِـيزَة ُالأولى التي تميَّزوا بها ، أشداءُ حيثُ يجبُ أن تكونَ الشِدَّة ُ، من غيرِ رأفةٍ ولا رحمةٍ .
فلا يُوالونَ أعداءَ اللهِ ولا يُجامِلونهُم على حسابِ عقيدتِهم , ولا يظاهرونهم . بل هوَ الولاءُ المطلقُ للهِ تباركَ وتعالى . وهُم لا يتوَدَّدُونَ إليهم بما لا يجوزُ فيهِ التودُّدُ ولا التقرُّبُ ، ولو كانوا منْ أولي القربى .
فلا يجوزُ على حسابِ العقيدةِ تواطؤٌ ولا تنازل ، بل شدَّة ٌوأيُّمَا شِدَّة . شدة ٌ كتلكَ التي سَطـَّرَت كتبُ السِيَرِ لها أمثالاً وأمثالاً. بـدءً بالحبيبِ المُصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وانتهاءً بأصحابهِ ومن ماثلهُم , واقتدى أثرهم .
فقد بَيَّنت حقيقة َما كانَ عليهِ هؤلاءِ الرجالُ, من فهم ٍللعقيدةِ وأحكامِها , والتزام ٍ مطلق ٍ بما انبثقَ عنها , أو بنيَ عليها . كيفَ لا, وقد سَبقهُم نبيُّهُم فقالَ لقومِهِ من غيرِ توَجُّس ٍمنهم ولا تخوُّفْ (
إنكم وما تعبدونَ من دون ِاللهِ حَصَبُ جهنمَ أنتم لها وارِدُون) الأنبياء/98.
كيفَ لا, وقد سَفـَّهَ أحلامَهُم وعابَ دينهُم ، وحَقـَّرَ أصنامَهُم . كيفَ لا ! وقد نقضَ أساسَ عقيدتِهم حتى خرَّ عليهم سَقفـُها.
ثمَّ كيفَ لا ! وهو صاحبُ قدوَتِهم ومحلُّ أسوَتِهم فيما يقولُ وفيما يَفعل . فقد روى مُسلمُ في صحيحِهِ عن أبي هُريرة َرضيَ اللهُ تعالى عنهُ بعدَ أن نقضتْ قريشٌ عهدَها, وحينَ فتح ِمكة َأنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال: (
يا معشرَ الأنصارِ هل ترونَ أوباشَ قريش ٍ؟ قالوا نعَم ، قال أنظروا إذا لقيتمُوهُم غداً أن تحصُدوهُم حَصداً، وأخفى بيدِهِ وَوضعَ يمينـَهُ على شمالِهِ وقالَ مَوعِدُكـُمُ الصَّفا، قالَ فمَا أشرَقَ يومئذٍ لهُم أحدٌ إلاَّ أنامُوهُ { أي قتلوه } هكذا هُمُ الرجالُ ، وأولئكَ هُمُ الأبطالُ ، أشداءُ على أعدائِِهِ ، رُحماءُ بأوليائِهِ .أمَّا الميزة ُالثانية ُ: التي تجلـَّت بها صورَتـُهُم ، فالرَّحمة ُبينهُم حيثُ تجبُ الرحمة ُ، تأسِّياً بنبيِّهمُ الرَّحمةِ المهداةِ صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه واقتداءً به، فقد روى الشيخان ِعن عبدِ اللهِ بن ِعُمَرَ رضيَ اللهُ تعالى عنهُمَا أنهُ قال :
إشتكى سعدُ ابنُ عُبادة ُشكوى لهُ، فأتى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يَعودُهُ مَعَ عبدِ الرحمن ِبن ِعوفٍ وسعدِ بن ِأبي وقاص ٍ وعبدِ اللهِ بن ِ مسعودٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهم أجمعين فلمَّا دخلَ عليهِ وجدَهُ في غـَشْيَةٍ فقال : أقدْ قضى ؟ قالوا لا يا رسولَ الله ِ, فبكى الرسولُ الأكرمُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ , فلما رأى القومُ بكاءَهُ بَكوا، فقال : ألا تسمَعون ؟ إنَّ اللهَ لا يُعذبُ بدمْع ِالعين ِ، ولا بحزن ِالقلب ، ولكنْ يُعذبُ بهذا { وأشارَ إلى لسانِهِ } أو يَرحَمْ . وصدقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إذ يقول : (
إنمَا يَرحَمُ اللهُ من عبادِهِ الرُحَمَاء ) .
ومن صُورِ رحمةِ الصحابةِ بعضِهم لبعض ٍكذلكَ ما رواهُ مسلمُ عن أنس ٍ قال : (
قالَ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهُ بعدَ وفاةِ الرسول ِصلى اللهُ عليهِ وسلمَ لِعُمَرَ: انطلق بنا إلى أمِّ أيمنَ نزُورُهَا كما كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يزورها ، فلما انتهينا إليها بكت ، فقالا لها ما يُبكيكِ ؟ ما عندَ اللهِ خيرٌ لرسول ِالله ، فقالت ما أبكي أن لا أكونَ أعلمُ أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ لرسولِهِ، ولكن أبكي أنَّ الوحيَ قد انقطعَ من السماءِ ، فهيَّجَتهُمَا على البكاءِ فجعلا يبكيان ِمَعَهَا .
وأما المِيزَة ُالثالثة ُ: فامتثالـُهُمُ المطلقُ لأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِهِ، هذا الإمتثالُ الذي عبَّرَت عنهُ الآية ُالكريمة ُحيثُ قالت :
( تراهُم ركعاً سُجدا ) وهوَ امتثالٌ لأمرٍ أمَرَ بهِ اللهُ، وهم يُبينـُونَ أنهُم طوعُ أمرهِ وأمرِ رسولِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ . فتلكَ هيَ الطريقُ للوصول ِإلى الغايةِ المنشودةِ والهدفِ المُبتغى ( يَبتغونَ فضلاً من اللهِ ورضوانا ) فنيلُ مرضاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ غايتـُهُم ، فبها سعادتـُهُم ، وبها حياتـُهُم ، حياة ُالأولى بجعلِها السبيلَ للوصول ِ إلى الآخرةِ الباقية .
أيُّها الإخوة ُ: لقد كانت تلكَ الصفاتُ من اللهِ بمكان ٍعليٍّ، حتى استحقت نزولَ آياتٍ بها, تـُتلى إلى يوم ِ القيامةِ. فعلى أكتافِ هؤلاءِ الرجال ِالأبرار, والنجوم ِالأخيار, أقامَ محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ دينـَهُ، وَبَنا دولتـَهُ، وحملَ عقيدَتـَهُ ، حتى عمَّ الأرضَ خيرُها، وتحولتِ البشرية ُعن ِالجاهليةِ بوجهـِهَا المُقفر، إلى نورِ الحقِّ المليكِ المقتدر، وخرجت من ظلم ِ الأديان ِالمُقحلةِ إلى عدل ِالإسلام ِالمُثمر، ومن ضيق ِالدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخرةِ .
وعلى أكتافِ أمثال ِهاتيكَ الدُّرَرِ سيعادُ إحياءُ تلكَ الأرض ِمن مَواتٍ بإقامةِ صرح ِالخلافةِ الراشدةِ الثانيةِ الموعودينَ بها قريباً بإذنه تعالى ، وحمل ِالعقيدةِ ونشرِهَا لتحيا البشرية ُاليومَ وترزقَ الحياة َالطيبة َوتنالَ الخيرَ العميمَ ، تماماً كما نالتهُ بالأمس ِ. فقوموا ولا تستكينوا، فما ورَّثَ القعودُ عزَّاً، ولا أعادَ التقاعسُ مَجداً, ولا أحيا كرامَة ً، ولا أوجدَ نهضة ً، ولا أعطى سيادة ً. واعلموا أنَّ عزَّتكم لا تكونُ إلاَّ بالإسلام ِ, فمهما ابتغيتـُمُ العزَّة َفي غيرهِ أذلـَّكُمُ الله .
فسارعوا إلى خيرِ العمل ِ، قبلَ أن يُحكِمَ قبضتـَهُ الأجل . فلا تغرنـَّكُمُ الحياة ُ الدنيا بزخرُفها ، ولا يفتننكـُمُ الشيطانُ بزينتِها . ألفظوها خلفَ ظهورِكم ، وقولوا لها كما قالَ سَيِّدي عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ { يا دُنيا غـُرِّي غيري } .
واسألوا اللهَ جَعلـَهَا بأيديكم ،لا بقلوبكم . وأن يُسخـِّرَها لكم فتـُخضِعوها, ولا يُسخـِّرَكم لها فتـُخضِعَكم ، واسألوا اللهَ العافية ، والمعافاة َالدائمة َ في الدين ِ والدنيا والآخرة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بقلم الأستاذ : سعيد عبد الله الصالح